لا يندرج الهجوم المتكرر على المؤسسة الأمنية في المغرب ضمن منطق الصدفة أو التعبير العفوي عن الرأي، بل أصبح أقرب إلى خطة ممنهجة تجمع بين تقنيات الخطاب الدعائي وأساليب التأثير النفسي والسياسي، من خلال استهداف الرمزية والفعالية التي تتمتع بها هذه المؤسسة داخل الدولة.
فالظاهر من الحملات التي تشن على الأجهزة الأمنية، أنها لا تقتصر فقط على مناورات الخطاب أو ما يُعرف بنظرية “فعل الكلام” كما صاغها الفيلسوف البريطاني جون أوستين، والتي تُحوّل الكلام إلى أداة لإحداث الأثر والتشويه عبر فبركة سرديات متخيلة، بل تتجاوز ذلك إلى تبني مقاربات سياسية شاملة، من قبيل ما نظّر له جين شارب، أحد أبرز منظري “الاحتجاج اللاعنفي”، الذي لم يُخفِ عداءه لمؤسسات إنفاذ القانون، واعتبرها بمثابة أنظمة طاعة ينبغي تقويضها لزعزعة الدولة من الداخل.
ما بين فلسفة أوستين ومنهج شارب، يتحرك خطاب التشهير بالمؤسسة الأمنية على إيقاع مدروس، تقوده أحياناً حسابات شخصية، وتغذيه دوافع سياسية داخلية وخارجية، في محاولة لهدم الثقة الشعبية في مؤسسة أبانت مراراً عن قدرة استثنائية في مواجهة التحديات الأمنية والإرهابية، وفي تحصين الوطن من أزمات مستوردة تدار عن بعد.
لكن الحقيقة التي لا تقبل التشكيك، هي أن المؤسسة الأمنية المغربية، بفضل يقظتها وتكيفها المستمر مع متطلبات الإصلاح ومقتضيات دولة الحق، قطعت الطريق على المخططات التخريبية، وحافظت على الاستقرار العام، في ظل احترام القانون وضمان الحريات.
- المؤسسة الأمنية ضمانة للاستقرار الدستوري
من موقعي الأكاديمي كباحث في القانون الدستوري وعلوم السياسة، فإنني إرى أن المؤسسة الأمنية، بوصفها إحدى تجليات سيادة الدولة، لا يمكن فصلها عن مشروع البناء الديمقراطي، بل هي شريك أساسي في تكريس السلم المجتمعي وسيادة القانون. والتشكيك في أدائها، دون حجج قاطعة أو محاكمات عادلة، يمثل ضرباً لأحد الأركان الجوهرية التي تقوم عليها الشرعية الدستورية.
فالاستقرار لا يتحقق فقط عبر صناديق الاقتراع والمؤسسات المنتخبة، بل أيضاً من خلال مؤسسات تنفيذ القانون التي تحمي ذلك المسار، وتضمن حمايته من محاولات الانزلاق نحو الفوضى أو التوظيف الخارجي للنزاعات الداخلية. وأي محاولة لتقويض هذه المؤسسات، خارج إطار الرقابة الدستورية والقانونية، تُعد ضرباً من العبث السياسي وخدمة مجانية لأجندات لا تؤمن بالدولة أصلاً.
- هندسة حملات التشكيك: بين التشبيك وتكرار الادعاء
تتبع مسار هذه الحملات خلال السنوات الأخيرة، يكشف عن أربعة عناصر تحليلية تساعد في فهم بنيتها وآليات اشتغالها: كيف تعمل؟ ما أسس خطابها؟ من المستفيد؟ وما المآلات؟
فيما يخص طريقة الاشتغال، يعتمد خطاب التشهير على ثنائية “التشكيك والتشبيك”. ينسق الفاعلون في الخفاء توقيت الهجمات الإلكترونية والإعلامية على شخصيات أمنية ومؤسسات، ويعتمدون على توزيع الأدوار عبر منصات التواصل وبعض الصحف الأجنبية والمنظمات الدولية. وغالباً ما تُستخدم قضايا مغلقة أو مشكوك فيها، مثل قضية “بيغاسوس”، لإعادة إنتاج خطاب الارتباك، وإيهام الرأي العام بوجود حقائق مفترضة.
أما من حيث المضمون، فإن البنية الخطابية للمهاجمين ترتكز على خلط منظم بين وقائع جزئية وأكاذيب كبرى، مع التركيز على الرموز الوطنية والتواريخ والمؤسسات بهدف ضرب الثقة العامة. والأكثر خطورة أن بعض هؤلاء يحرصون على اتهام غيرهم بممارسة التشهير، لتضليل المتلقي وإدخاله في متاهة الالتباس، وهي تقنيات مألوفة في الأدبيات الدعائية للمعسكرات الشمولية سابقاً.
- صمت النخب… شراكة في الخسارة
المقلق في هذا السياق ليس فقط وجود هذا الخطاب العدائي، بل التواطؤ الصامت لكثير من النخب السياسية والمجتمعية التي لم تدرك بعد أن ضرب المؤسسة الأمنية هو مدخل لضرب الدولة بكاملها. ومثلما قال القس الألماني مارتن نيمولر إبان صعود النازية: “في البداية أتوا للاشتراكيين… ولم أتكلم، ثم أتوا من أجلي ولم يبق أحد ليتكلم”. هذا الصمت، حين يتحول إلى عادة، يصبح مشاركة ضمنية في تهديد الأمن الجماعي وتفكيك الثقة المؤسساتية.
لقد آن الأوان لتتجاوز النخب الحزبية والسياسية منطق الصراعات الإدارية القديمة مع مؤسسات الدولة، وأن تتبنى خطاباً واضحاً في الدفاع عن المكتسبات الوطنية، وفي مقدمتها المؤسسات الأمنية التي تمثل صمام أمان النظام العام، وأحد أهم عناصر الاستقرار السياسي والاجتماعي.
ففي زمن تتقاطع فيه الحروب الإعلامية مع الأجندات الجيوسياسية، يصبح الصمت خيانة للمسؤولية، والحياد تواطؤاً. والمؤسسة الأمنية، بما راكمته من خبرة وشرعية، تستحق أن تكون محل دعم لا تشكيك، ومحل تحصين لا استهداف. فحماية الدولة تبدأ من احترام من يحرسها.
أمين نشاط
باحث في سلك الدكتوراه، متخصص في القانون الدستوري وعلم السياسة