ليس أخطر على الجامعة العمومية من الفوضى، ولا أكثر إيلامًا من العبث حين يغلف بقرارات إدارية صامتة. فما يقع اليوم في ملف الولوج إلى سلك الماستر بنظام “الزمن الميسر” بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بتطوان لم يعد مجرد خلل عابر في التنظيم، بل صار امتحانًا حقيقيًا لمعنى الحكامة، وحدود السلطة الإدارية، ودور الجهة الوصية حين تختلط القواعد وتضيع البوصلة. ويزداد هذا الوضع إثارة للتساؤل حين يقارن بما جرى داخل باقي الكليات التابعة لـ جامعة عبد المالك السعدي، التي مرت استحقاقات الولوج إلى التكوينات العليا فيها في أجواء عادية ومنظمة، دون ارتباك يذكر أو احتقان واسع. في هذا السياق، لا تبدو كلية الحقوق بتطوان جزءًا من وضع عام، بل استثناءً مقلقًا يسير عكس النسق الطبيعي للمؤسسة الجامعية، ويطرح أسئلة مشروعة حول أسباب هذا الانفصال عن الممارسة السليمة التي طبعت باقي المكونات الجامعية.
فبعد الإعلان عن الامتحان الكتابي، ثم تعليقه، ثم أسبوع من الصمت، انتهى المسار بإعلان نتائج نهائية يوم 29 دجنبر 2025 دون اجتياز أي امتحان، ودون بلاغ رسمي يشرح للرأي العام الجامعي كيف ولماذا تغيرت القواعد في منتصف الطريق. لا تفسير، لا تعليل، ولا محاولة لربط القرار بمنطق قانوني أو أكاديمي مفهوم. فقط نتائج تنشر، ومترشحون يطلب منهم أن يتعاملوا مع الأمر كأنه تحصيل حاصل لا يقبل النقاش.
هنا تحديدًا يبدأ المشكل. لأن الكلية ليست صندوق اقتراع سري، ولا شركة خاصة، ولا فضاء يدار بالحدس والانطباع، بل مؤسسة عمومية تخضع في قراراتها لمنطق الحكامة الجيدة، حيث لا تكتمل المسؤولية إلا بالمحاسبة، ولا تبنى المشروعية إلا على الشفافية والتعليل. فالقرار الإداري، خصوصًا حين يمس مصير موظفين وطلبة، لا يكفي أن يصدر، بل يُفترض أن يشرح منطقه، وأن يربط بين السلطة التي اتخذته والمسؤولية التي تبرره، انسجامًا مع ما رسخه جلالة الملك محمد السادس نصره الله في عدد من الخطب السامية، من أن ربط المسؤولية بالمحاسبة ليس مجرد شعار، بل ثقافة تدبير يومي يُفترض أن تسري داخل مختلف المرافق العمومية.
فالمثير للانتباه اليوم، أن الأسئلة التي طرحها المترشحون، بدل أن تجد جوابًا رسميًا، قوبلت – بحسب ما هو متداول – بحذف تعليقات منتقدة من الصفحة الرسمية للكلية على الفايسبوك، وتوقيف خاصية التعليق. وكأن المشكل ليس في غياب التوضيح، بل في وجود من يطالب به. وهنا ننتقل من سوء تدبير إلى سوء فهم لوظيفة المؤسسة العمومية في علاقتها بالمواطن: هل دورها إغلاق النقاش أم تأطيره؟
ما الذي يريده الموظفون..؟؟ لا امتيازات، ولا أسماء بعينها، ولا صراعًا مع الإدارة. يريدون فقط جوابًا بسيطًا عن أسئلة بسيطة: كيف تم الانتقاء؟ من قرر إلغاء الامتحان؟ وبأي معايير تم الحسم؟ أسئلة لا تهدد أحدًا، لكنها تُحرج كل من اعتاد أن يصدر القرار دون أن يشرح منطقه.
وقد سبق أن نبهت شمال بريس، في مقالات سابقة، إلى أن هذا المسار يسير في اتجاه مقلق، وأن الغموض حين يراكم لا ينتهي بالهدوء، بل بالاحتقان. اليوم، تتأكد تلك المخاوف، لا لأن النتائج ظهرت، بل لأن الطريقة التي ظهرت بها تُضعف الثقة في المسطرة نفسها، وتفتح الباب أمام التأويل بدل الطمأنة.
وفي هذا السياق، يفرض نفسه سؤال أبعد من ملف الماستر، وأكثر عمقًا من لحظة النتائج: هل نتعامل هنا مع حالة معزولة، أم مع منهج في الحسم الإداري؟ فإذا كانت قرارات من هذا الوزن تُتخذ دون امتحان، ودون تعليل مكتوب، ودون نشر للمعايير، فمن المشروع أن يتساءل الرأي العام الجامعي عما إذا كان المنطق نفسه يُعتمد في ملفات أخرى لا تقل حساسية، مثل ملف التوظيف. سؤال لا يتهم، لكنه يقلق، لأن الإدارة العمومية حين تضعف فيها القواعد، يصبح كل ملف مرشحًا لأن يدار بالمنطق نفسه: منطق القرار الجاهز الذي لا يشرح نفسه.
ووسط هذا الانتظار الطويل لتوضيح من العمادة، برزت مفارقة لافتة. فبينما كان الرأي العام الجامعي ينتظر جوابًا رسميًا يبدد الغموض ويعيد الثقة، سارعت العمادة إلى نشر إعلان عن تنظيم مؤتمر دولي حول اجتهاد القضاء الإداري المغربي، الذي سينظم شهر فبراير. خطوة أثارت تساؤلات مشروعة حول ترتيب الأولويات، إذ رأى متابعون أن الأجدر في هذه المرحلة لم يكن الإكثار من العناوين الأكاديمية اللامعة، بقدر ما كان الاجتهاد العملي في معالجة الاختلالات التي تعيشها الكلية، واستباق الإشكالات التي قد ترافق انطلاق الامتحانات التي ستجرى في 12 يناير 2026، خاصة في ظل سوابق عرفتها المؤسسة خلال الولاية الحالية، حيث شهدت محطات امتحانية حالات توتر ومقاطعة باتت مصدر قلق متجدد للطلبة والأساتذة مع كل موسم جامعي.
هنا، لم تعد القضية شأنًا داخليًا للكلية أو حتى للجامعة فقط. نحن أمام وضع يمس صورة الجامعة العمومية برمتها، ويضع مبدأ تكافؤ الفرص على المحك، خصوصًا حين يتعلق الأمر بمسارات يفترض فيها أعلى درجات الصرامة والشفافية. وهو ما يجعل هذا الملف يتجاوز المحلي، ويستدعي تدخلًا صريحًا ومسؤولًا من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.
فاليوم، يرى الرأي العام الجامعي أن التدخل الوزاري لوزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، عز الدين ميداوي، لا يمثل وصاية بل أصبح ضرورة ملحة، ولا ينطوي على أي تشكيك في الأشخاص، بقدر ما يندرج في إطار تصحيح مسار فقد توازنه. فهو ليس إجراءً عقابيًا، بل آلية لحماية المؤسسة وصون مصداقيتها. ذلك أن الكلية التي لا تُفسِّر قراراتها تُفرِّط في سلطتها المعنوية، والإدارة التي لا تُقنع، ستجد نفسها، عاجلًا أو آجلًا، أمام أزمة ثقة يصعب ترميمها.
ما يحتاجه هذا الملف اليوم ليس بيانًا إضافيًا، ولا تبريرًا شفهيًا، بل افتحاصًا واضحًا لمساطر الانتقاء، ونشرًا للمعايير، وتحديدًا دقيقًا للمسؤوليات. لأن “الزمن الميسر” لا يعني قرارات مبهمة، ولأن الصمت، حين يطول، يتحول من خيار إداري إلى خطأ مؤسساتي.
وفي هذا السياق، تؤكد شمال بريس أن هذا الملف لن يكون استثناءً معزولًا في معالجتها الصحفية، بل يندرج ضمن مسار تتبعي أوسع سيشمل عشرات المقالات التي ستتطرق، تباعًا، إلى مجموعة من الاختلالات التدبيرية والتنظيمية التي ساهمت، بحسب معطيات وشهادات متطابقة، في إدخال الكلية في وضعية أقرب إلى “الإنعاش المؤسسي”، نتيجة قرارات متتالية وصفت بأنها غير مدروسة وتفتقر إلى الرؤية والتقدير المسبق للآثار. وتؤكد الجريدة أن هذا التتبع لا يستهدف الأشخاص، بل يسلط الضوء على منهج في اتخاذ القرار بات يثير القلق داخل الأوساط الجامعية، ويستدعي نقاشًا عموميًا مسؤولًا حول مآلات التدبير الأكاديمي والإداري.
وإذ تواصل شمال بريس تتبعها لهذا الملف، فإنها تفعل ذلك لا بدافع الخصومة أو الاصطفاف، بل انطلاقًا من قناعة راسخة مفادها أن الدولة المغربية دخلت خلال السنوات الأخيرة دينامية جديدة في التدبير العمومي، قوامها التشاور، والانفتاح، وإشراك المواطنات والمواطنين في صياغة اختيارات التنمية، سواء عبر اللقاءات التشاورية، أو المنصات الرقمية، أو آليات الديمقراطية التشاركية التي باتت تؤطر السياسات العمومية وصنع القرار الترابي. غير أن ما يجري بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بتطوان يسير، للأسف، في اتجاه معاكس تمامًا لهذه الروح، من خلال إغلاق أبواب التوضيح، والتعامل مع السؤال المشروع باعتباره إزعاجًا لا حقًا، بدل اعتباره جزءًا طبيعيًا من علاقة المؤسسة العمومية بمحيطها. فحين تختار الكلية الصمت بدل الشرح، والحذف بدل التواصل، فإنها لا تخرج فقط عن منطق الحكامة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، بل تتحول إلى استثناء نشاز داخل مسار دولة راهنت على أن قوة المؤسسات لا تُقاس بقدرتها على إسكات النقاش، بل بقدرتها على تأطيره، وشرح قراراتها، وإقناع الرأي العام بمشروعيتها. أما ترك هذه الممارسات تتراكم دون تصحيح، فلا يمكن اعتباره حيادًا، بل قبولًا ضمنيًا بمنهج يتناقض مع الاختيارات العميقة التي أعلنت الدولة نفسها الالتزام بها.

