منذ أول خطاب للعرش يوم 30 يوليوز 1999 أكد جلالة الملك على قضية الصحراء المغربية باعتبارها القضية الوطنية الأولى، غير قابلة للمساومة و حظيت باهتمام ملكي غير مسبوق إضافة الى تأطير فلسفة حكمه بتركيزه على المفهوم الجديد للسلطة، كمدخلين للعهد الجديد، إضافة الى مسألة التعليم لما لها من أهمية في تكوين الأجيال وبناء الكفاءات الوطنية ومواجهة تحديات العصر العلمية والتقنية سواء الدولية او الافريقية او العربية.
ولقد رسم جلالة الملك طريق التغيير والتنمية و ترصيد المكتسبات، وسار بخطوات حثيثة على درب الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث جعل من المملكة المغربية استثناء دوليا في زمن تنامي الأزمات الإقليمية المستمرة والمتتالية.
وتتميز مدة 24 سنة من حكم جلالة الملك محمد السادس بتثبيت الخيار الديمقراطي الحداثي وإنجاز مشاريع ضخمة غيرت من صورة المغرب جعلت له مكانا بين الدول الصاعدة، حيث شكل خطاب 12 أكتوبر 1999 بمدينة الدار البيضاء تغييرا في منهجية الحكم والتعامل مع المواطنين باستبدال مفهوم وممارسة السلطة. وإحداث قطيعة مع الأساليب الإدارية القديمة، حيث فرض احترام وحماية الحريات الفردية والجماعية وترسيخ مبدأ دولة الحق والقانون.
واعتبر جلالة الملك المفهوم الجديد للسلطة دعامة جديدة للحكم، ولا يقتصر المفهوم الجديد للسلطة على تغيير سلطة الولاة والعمال والإدارة الترابية، وإنما شمل كل من له سلطة، سواء كان منتخبا، أو الممارسين لمسؤولية عمومية، كيفما كانت، والتصدي للممارسات التي تمس بمصداقية المؤسسات التمثيلية، وتحديد مسؤوليات السلطات العمومية والأحزاب السياسية المسؤولة عن توفير الضمانات القانونية والقضائية والإدارية لنزاهة أول انتخابات على عهده سنة 2002.
وفي مجال حقوق الإنسان وحمايتها فقد أرسى جلالة الملك فلسفة جديدة قائمة على الاعتراف بخروقات الماضي وإرساء أسس دولة الحق والقانون واتخذ جلالته في هذا المجال مبادرة شجاعة تتعلق بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة في يناير 2004، التي انكبت على موضوع انتهاكات الماضي لحقوق الإنسان خلال الفترة بين عامي 1956 و1999، والتي كرست مصالحة المغاربة مع تاريخهم وماضيهم وجبر خاطر المتضررين من الخروقات والتجاوزات، حيث تم تخصيص تعويض لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.
كما حظيت قضية المرأة بصفة عامة باهتمام خاص من قبل جلالة الملك و بأولوية ضمن الإصلاحات التشريعية والمؤسسية، حيث اهتم بالأسرة المغربية بصفة خاصة، من خلال مدونة الاسرة، و كلف لجنة ملكية استشارية مكونة من نخبة من العلماء والخبراء، ومتعددة المشارب ومتنوعة التخصصات، من أجل القيام بمراجعة جوهرية لمدونة الأحوال الشخصية، وإعداد مشروع مدونة جديدة للأسرة، مع الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، ومقاصد الدين الإسلامي السمحة، ودعا إلى إعمال الاجتهاد في استنباط الأحكام، مع الاسترشاد بما يطلبه التطور وروح العصر. وذلك يوم الجمعة 10 أكتوبر 2003 عند افتتاحه الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان. ليصبح للمغرب منذ 2004 أول مدونة للأسرة، عصرية ومتقدمة، تتوخى حماية حقوق المرأة والطفل.
ومن بين أهم الإصلاحات الملكية أيضا ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقها جلالته في 18 مايو 2005، والتي تهدف إلى محاربة الهشاشة والفقر وتكريس التضامن الاجتماعي، إذ تعد النموذج والمثال الحي للشراكة الثلاثية الناجعة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
هذه المبادرة بما حققته من منجزات لمجموعة من الشرائح الاجتماعية التي كانت تعاني من الهشاشة. وباعتبار قضية الصحراء المغربية هي القضية الأولى بالنسبة للمغرب ملكا وشعبا، فقد تقدمت المملكة المغربية عام 2007 بمبادرة الحكم الذاتي لإنهاء النزاع المفتعل، واعتبرها جلالته المبادرة الوحيدة التي يمكن التفاوض بشأنها. وحظيت بتأييد إيجابي على المستوى الدولي، دعمتها الولايات المتحدة وإسبانيا وألمانيا وكثير من الدول والمنظمات الدولية لكونها أساس الحل السياسي للنزاع في إطار سيادة المغرب ووحدته الترابية.
إن الاصلاحات الكبرى التي قام بها جلالة الملك ترمي إلى دعم المسلسل الديمقراطي وبناء دولة القانون والحداثة وتعزيز حقوق الإنسان، وصناعة سياسات عمومية راكمت تجارب اصبحت قابلة للتصدير تجاه دول الجنوب.
فمنذ اعتلائه العرش كان جلالته حريصا على جعل مشروع بناء مجتمع ديمقراطي وحداثي أولوية تتصدر اهتماماته، حيث اخضع الممارسة الديمقراطية وإرساء قواعدها ودعم آليات اشتغالها، لامتحان المواطنة والالتزام بمبدأ دولة الحق والقانون، والوعي بالخيار الاستراتيجي كمشروع إصلاحي شامل يقوم على دمقرطة الحياة السياسية وتغيير وتأهيل المشهد السياسي الوطني.
وأحدث ورش الجهوية المتقدمة تغييرا عميقا في هياكل الدولة، لكونه الطريق الانجع لمعالجة الاختلالات المجالية، والاستجابة لمطالب سكان كل منطقة على حدة، بما يستجيب لمشكلاتهم وانتظاراتهم.
ذلك ان شخصية الملك وافكاره الاصلاحية و سياسته الخارجية المتوازنة والمبنية على الدفاع عن القضايا والمصالح الوطنية، وعلى نهج مقاربة تبادل المصالح و التعاون والتضامن، والمساهمة في حل النزاعات وتحقيق السلم والأمن الدوليي…. كلها جلبت احترام المجتمع الدولي للمغرب. كما كسب من خلالها المزيد من دعم مجلس الأمن بقرارات تتماشى بشكل أكبر مع الحضور المغربي ومستوى التعاون مع هيئة الامم المتحدة.
كما ان اختيار المغرب للشراكات و تنويع شركائه، وعدم الاعتماد فقط على الشركاء التقليديين، وانفتاحه على فاعلين جدد مثل الصين وروسيا زاد من قوة المغرب على المستوى الدولي.
وتعتبر قيادة جلالة الملك لعدد من المشاريع الكبرى منها ما هو مرتبط بمشاريع البنى التحتية (الطرق، المواني، المطارات، القطار فائق السرعة وغيرها)، أو برامج النهوض بقطاعات استراتيجية كالفلاحة والصناعة والطاقات البديلة، حسن صورة المغرب ووسع من دائرة اقناع الدول بقدرة المغرب الاقتصادية والتجارية.
كما عمل جلالته على مكافحة الإخفاق من خلال المكاشفة التي تعزز الاصلاح و التغيير، وذلك بتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
فمسيرة الاصلاح مستمرة، وتواجه كل التحديات، بل اصبح المغرب بفضل الارادة الملكية قادر على اثبات الرؤية المغربية، حيث اثبت جلالة الملك السياسة الفعالة والقرارات الناجعة والشجاعة والمتبصرة تجاه واقع دولي معقد العلاقات ومتشابك المصالح.
ويعتبر الخطاب الملكي يوم 9 مارس 2011، خارطة طريق للاصلاحات الشاملة، و الأساس المتين لارساء النموذج الديمقراطي المغربي. كدسترة الأمازيغية كلغة رسمية، و دسترة كافة حقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميا، والانبثاق الديمقراطي للسلطة التنفيذية، حيث تم الارتقاء بمؤسسة الوزير الأول الى مرتبة رئيس للحكومة، اضافة توسيع سلطة البرلمان التشريعية و الرقابية، و ترسيخ استقلالية السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، تكريسا لاستقلال القضاء، ودسترة بعض المؤسسات الأساسية، و احداث آليات ومؤسسات للحكامة الجيدة، مجلس المنافسة، والهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة والوقاية منها.
ففي مجال حقوق الانسان والحريات العامة، فقد اولى جلالته عناية خاصة بحقوق المرأة، وحقوق الطفل، تجسيدا لالتزام المغرب الراسخ بتعزيز منظومة حقوق الإنسان وحمايتها ، حيث يعتبر دستور 2011، الذي تم بمقاربة وطنية تشاركية وبخبرة مغربية، وبمساهمة جميع الفاعلين المعنيين، والذي يعد ميثاقا أساسيا للحريات والحقوق الأساسية، ويتلاءم مع المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، و يتضمن حوالي 60 مادة متعلقة بالحقوق والحريات.
بالاضافة الى استقلال التام للسلطة القضائية، وارساء الهيئات التعددية والمستقلة المعنية بحماية الحقوق والحريات، و بالديمقراطية التشاركية و بالحكامة الجيدة.
وفي مجال السياسة الجديدة دعا جلالة الملك منذ سنة 2013، السلطات المغربية الى تسوية وضعية آلاف المهاجرين السريين، وغالبيتهم الساحقة من المهاجرين من جنوب الصحراء و الساحل، فتمكنت فئة من المهاجرين من الحصول على بطاقة الإقامة، واصبحت تقيم في المغرب بشكل قانوني، مع الاستفادة من التعليم والتكوين المهني، ومن الحصول على الحق في العلاج في المستشفيات، والحق في السكن والعمل.
وفي مجال محاربة الارهاب والتطرف العنيف اعتمد المغرب ، منذ الهجمات الإرهابية التي وقعت في الدار البيضاء في 16 مايو 2003، سياسة أمنية استباقية و استراتيجية متكاملة و ناجعة ضد الإرهاب، و شاملة و متعددة الأبعاد ارتكزت على ثلاثة عناصر أساسية تمثلت في إعادة هيكلة الحقل الديني وتفعيل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بالإضافة إلى دعم وتقوية العقيدة و المقاربة الأمنيتين، لقي بفضلهما المغرب إشادة واسعة وتثمينا من طرف العديد من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية واسبانيا وفرنسا بالاضافة الى منظمة الأمم المتحدة، واصبحت تجربة المغرب في مجال محاربة الإرهاب ومكافحة التطرف العنيف رهن إشارة شركائه في افريقيا.
هذا بالاضافة الى إصلاح الحقل الديني، انطلاقا من صفة جلالة الملك كأميرا للمؤمنين، وذلك بالارتكاز على مجموعة من الآليات منها تكوين الأئمة وتدبير المساجد وتكوين المرشدين والمرشدات إلى جانب تكريس التسامح والاعتدال والتعايش في تأطير التنوع والتعدد الثقافي في المجتمع المغربي عبر تثمين مختلف المقومات والروافد.
ويعتبر الحدث التاريخي المتمثل في العودة الى الاتحاد الافريقي والقاء جلالة الملك خطابا أمام القمة ال 28 للاتحاد الإفريقي يوم 31 يناير 2017، ضربة موجعة للخصوم، حيث قال جلالته : لقد حان الوقت لكي تستفيد إفريقيا من ثرواتها. فبعد عقود من نهب ثروات الأراضي الإفريقية، يجب أن نعمل على تحقيق مرحلة جديدة من الازدهار. وأضاف قائلا : بلدي اختار تقاسم خبرته ونقلها إلى أشقائه الأفارقة. وهو يدعو، بصفة ملموسة، إلى بناء مستقبل تضامني وآمن.
وقيام جلالته بزيارة نحو 30 دولة عبر حوالي 50 زيارة متنوعة، توجت بتوقيع مجموعة من الاتفاقيات والمشاريع شملت مختلف المجالات والقطاعات الحيوية، وفي الإجمال بلغ عدد الاتفاقيات الموقعة بين المغرب والعديد من البلدان الإفريقية حوالي 1000 اتفاقية، ساعدت المغرب من توسيع استثماراته الاقتصادية والمالية في القارة. وفق رؤية للتعاون جنوب-جنوب مع إفريقيا، حيث أصبح حاليا المستثمر الإفريقي الرابع بالقارة الإفريقية.
و بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الأولى من السنة التشريعية الأولى 13 أكتوبر 2017 من الولاية التشريعية العاشرة، دعا جلالة الملك في خطابه إلى اعتماد نموذج تنموي جديد، من خلال إعادة تقييم النموذج التنموي الوطني الحالي، ووضع نهج جديد يركز على تلبية احتياجات المواطنين،و إيجاد حلول عملية للمشاكل الحقيقية، للفوارق المجالية و اللامساواة.
وفي افتتاحه للدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من نفس الولاية التشريعية للبرلمان 12 أكتوبر 2018، أكد الملك، أن “النموذج التنموي للمملكة أصبح غير قادر على تلبية احتياجات المواطن المغربي، مضيفا ان المغاربة اليوم يحتاجون إلى التنمية المتوازنة والمنصفة التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب، وتساهم في الاطمئنان والاستقرار والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية، التي يطمح إليها كل مواطن.
وفي نونبر من سنة 2019، عين الملك لجنة خاصة، كلفها بالعمل على مشروع النموذج التنموي الجديد في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج. و قدمت اللجنة تقريرها أمام جلالة الملك يتضمن خلاصاتها وتوصياتها الخاصة بالنموذج التنموي، يتضمن ورؤية استراتيجية لبلادنا في أفق 2035.
وتجدر الاشارة الى أن الديبلوماسية الملكية اداة مهمة لمقارعة التعامل و الحقائق الدولية و مقاربة القضايا المطروحة، وبفضل التوجيهات الملكية، استطاع المغرب ان يثبت حقوقه داخل مختلف هيئات الأمم المتحدة، ومجلس الامن و حظى بالتأييد سواء فيما يتعلق قضية سيادته على صحرائه امام مجلس الأمن والتأكيد على الحل السياسي للنزاع المفتعل في اطار المقترح المغربي او غير ذلك من قضايا السلم والامن المطروحة وذلك من خلال المقاربة الواقعية و المنطق العملي والنظرة الدائمة و القائمة على التوافق وتبادل الاراء والافكار والتعاون المثمر. فكانت النتيجة هي قرار رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي يعترف بالسيادة الكاملة والتامة للمغرب على صحرائه، فثبت ان الدبلوماسية الفاعلة والاستباقية والطموحة تخضع للرؤية المتبصرة لجلالة الملك والواقعية. وتبعتها اعترافات دولية كالمانيا واسبانيا و عدد من الدول العربية و الافريقية و امريكا اللاتينية…
و بعد عمر طويل وبالنظر إلى مدة حكم جلالته 24 سنة مقارنة بحجم الاصلاحات و الإنجازات و التي لا يسمح الوقت للوقوف عليها كلها لكونها تحتاج الى وقت للاحاطة بها، يمكن القول ان تجربة حكم جلالة الملك محمد السادس جد متميزة و لم يسبق لها مثيل عبر تاريخ الحكم في المغرب.
الدكتور احمد درداري
رئيس المركز الدولي لرصد الازمات واستشراف السياسات بمرتيل
تعليقات الزوار ( 0 )