لم يكن النجاح الدبلوماسي الذي حققه المغرب بقيادة الملك محمد السادس في انفراج أزمة المحتجزين الفرنسيين، سوى إحدى العلامات البارزة على قوة وفعالية “لادجيد”، جهاز المديرية العامة للدراسات والمستندات، الذي أصبح في السنوات الأخيرة أحد الأعمدة الرئيسية للأمن الوطني والمصالح المغربية على الساحة الدولية.
فقد تجسدت هذه القوة الاستخباراتية في قدرتها الفائقة على التدخل في أزمات معقدة، مما جعل منها أداة استراتيجية بارعة تُسهم في تعزيز النفوذ المغربي في قلب القارة الإفريقية. إذ تعود جذور “لادجيد” إلى لحظة تأسيسه عام 1956، عندما استقلت المملكة المغربية وبدأت مرحلة بناء مؤسساتها الوطنية. حيث جاء إنشاء الجهاز كضرورة ملحّة، ليكون بمثابة الحارس الخفي لأمن المملكة وسياستها الخارجية، في زمن كانت التحديات فيه متعددة الأبعاد، من تهديدات الاستعمار المتبقية إلى التوازنات الدولية خلال الحرب الباردة.
ومنذ ذلك الوقت، كان “لادجيد” جزءًا من استراتيجية المغرب الكبرى، حيث نما ليصبح مؤسسة استخباراتية فاعلة تجمع بين جمع المعلومات وتحليلها وتوظيفها في خدمة المصالح العليا للمملكة.
وإلى جانب نجاحاته الدبلوماسية، يُعد “لادجيد” ركيزة أساسية في معركة المغرب ضد الإرهاب. فمع تصاعد التهديدات الإرهابية على الصعيدين الإقليمي والدولي، برز الجهاز كدرع أمني متقدم، يعمل بتناغم مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني “ديستي”.
هذا التعاون الأمني الوثيق جعل المغرب نموذجًا يُحتذى به في مكافحة الإرهاب، حيث نجح في تفكيك خلايا إرهابية خطيرة وإحباط العديد من المخططات التي استهدفت استقراره واستقرار المنطقة. كما لعب “لادجيد” دورًا رياديًا في تقديم معلومات استخباراتية دقيقة لشركائه الدوليين، مما أسهم في التصدي للتهديدات العابرة للحدود.
ودائمًا كانت منطقة الساحل الإفريقي بؤرة ساخنة للتوترات، ومع ذلك، أثبتت المملكة المغربية، عبر ذراعها الاستخباراتي “لادجيد”، قدرتها على التفاعل مع هذا الواقع المعقد. ففي أزمة احتجاز المواطنين الفرنسيين ببوركينا فاسو عام 2023، تجلت براعة “لادجيد” في العمل السري والدبلوماسي. حيث تدخل الجهاز بمهمة حساسة تطلبت دقة وحذرًا، ونجح في تأمين الإفراج عن المحتجزين، مما عزز مكانة المغرب كوسيط موثوق في الأزمات الإقليمية. وفي أزمة النيجر، حيث أطاح المجلس العسكري بالحكومة المنتخبة، قدم “لادجيد” مرة أخرى نفسه كوسيط قادر على تقديم حلول إبداعية.
كسبيل المثال لا الحصر، خطة استقبال الرئيس المعزول محمد بازوم في المغرب لم تكن مجرد عرض دبلوماسي، بل خطوة مدروسة استندت إلى تحركات استخباراتية شملت التنسيق مع مختلف الأطراف المحلية والدولية. وهي مقاربة من شأنها تعزيز مصداقية المغرب في المنطقة، وتؤكد كيف يمكن للاستخبارات أن تكون أداة دبلوماسية بامتياز.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه التحديات الأمنية على مستوى العالم، يواصل “لادجيد” دوره كجهاز متعدد الأبعاد. فهو ليس فقط العين الساهرة على الأمن الوطني، بل أيضًا الجسر الذي يربط المغرب بشبكات التعاون الدولي، خاصة في مجالات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
ولعل أبرز ما يميز هذا الجهاز هو قدرته على التكيف مع المتغيرات الدولية، حيث يوازن بين العمل في الخفاء وتحقيق نتائج ملموسة تُترجم إلى استقرار داخلي ونفوذ خارجي. مما يبين أن “لادجيد” ليست مجرد مؤسسة استخباراتية، بل رمز لاستراتيجية مغربية متكاملة تمزج بين الحنكة الأمنية والحكمة السياسية. وفي كل خطوة يخطوها هذا الجهاز، يعزز المغرب حضوره على الخريطة الدولية، ليبقى قوة فاعلة في محيطه الإقليمي والدولي، ومثالًا على كيفية تحويل التحديات إلى فرص، والأزمات إلى إنجازات.
تعليقات الزوار ( 0 )